من المسيرة الخضراء إلى المسيرة التنموية الكبرى

بقلم: إبراهيم فاضل

الخطاب الملكي لم يكن مجرد مناسبة احتفالية أو استعادة لصفحات مشرقة من التاريخ الوطني، بل كان خطاباً استثنائياً بكل المقاييس، يمكن وصفه بأنه خطاب التحول والحسم في مسار قضية الصحراء المغربية، فبكلمات موزونة ورؤية استراتيجية متكاملة، أعلن جلالة الملك محمد السادس عن دخول المغرب مرحلة جديدة من التعامل مع ملف الصحراء، مرحلة تتجاوز منطق الدفاع والانتظار إلى منطق المبادرة والسيادة الفعلية على الأرض وفي المحافل الدولية.

منذ البداية، حمل الخطاب رمزية دينية عميقة حين استهل بآية “إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً”، وكأن جلالته أراد أن يربط بين فتح الصحراء سياسياً وتنموياً وبين الوعد الإلهي بالنصر بعد الصبر والمثابرة. هذه الإشارة ليست مجرد بلاغة لغوية، بل رسالة معنوية للشعب المغربي بأن خمسين سنة من العمل المتواصل لم تذهب سدى، وأن المغرب بلغ اليوم لحظة “الفتح الجديد” الذي يؤسس لمغرب موحد من طنجة إلى لكويرة.

ومن زاوية تحليلية، يعكس هذا الخطاب تحولاً في العقيدة السياسية والدبلوماسية للمملكة، فبعد سنوات من التفاوض بحذر ومن إدارة التوازنات الدولية بحكمة، يبدو أن المغرب اليوم يتحدث من موقع قوة وثقة.

لقد أصبحت مبادرة الحكم الذاتي، التي كانت في بداياتها مجرد مقترح مغربي، إطاراً أممياً معترفاً به تدعمه أغلبية الدول الكبرى والمؤثرة في القرار الدولي. والملك، وهو يعلن “تحيين وتفصيل” هذه المبادرة، يؤكد أن المغرب لن يكتفي بالموقف الدفاعي، بل سيحوّلها إلى مشروع تطبيقي متكامل، يجمع بين السيادة والتنمية والمشاركة المحلية.

ما يميز هذا الخطاب أيضاً هو واقعيته السياسية، فهو لا يتحدث بلغة الانتصار الخطابي، بل بلغة الدولة التي تعرف ما تريد وكيف تصل إليه. فحين يؤكد جلالته أن “قضية الصحراء لم تعد موضوع نزاع إقليمي مفتوح، بل أصبحت في طور التسوية النهائية”، فهو لا يبالغ، بل يستند إلى معطيات موضوعية: اعترافات دولية متزايدة، قنصليات في العيون والداخلة، استثمارات أجنبية كبرى في الأقاليم الجنوبية، وموقف أممي متطور لصالح المقاربة المغربية.

لكن الأهم من البعد الدبلوماسي هو البعد الإنساني العميق الذي حمله الخطاب، من خلال الدعوة الصريحة للمغاربة المحتجزين في تندوف إلى العودة إلى الوطن والمشاركة في بناء مغربهم. لم يكن ذلك نداءً سياسياً بقدر ما هو نداء أبوي وإنساني يفتح الباب أمام المصالحة الوطنية على أساس الكرامة والانتماء المشترك. فالوحدة الوطنية، كما شدد جلالته، لا تقوم على الإقصاء أو الانتقام، بل على الإخاء والمشاركة في التنمية.

وفي هذا السياق، تأتي دعوة جلالة الملك إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للحوار “الأخوي الصادق” كرسالة ناضجة تعكس رؤية ملكية ثابتة تقوم على بناء المستقبل المغاربي المشترك بعيداً عن منطق القطيعة. إنها ليست دعوة ظرفية، بل استمرار لنهج ملكي يرى أن أمن واستقرار المنطقة لن يتحقق إلا بالتعاون، وأن الاتحاد المغاربي ليس ترفاً سياسياً، بل ضرورة تاريخية واقتصادية للأجيال القادمة.

الخطاب أيضاً حمل بعداً تنموياً واضحاً، عندما ربط بين السيادة على الأرض والتنمية المستدامة، في إشارة إلى أن مغربية الصحراء لا تُثبت بالشعارات، بل بالأفعال والمشاريع الكبرى التي تجعل من الجنوب المغربي نموذجاً في الاستقرار والتقدم. فالموانئ، والمناطق الصناعية، والطرق السريعة، والمشاريع الطاقية، كلها تعكس رؤية متكاملة لدولة لا تدافع فقط عن حدودها، بل تبني فيها مستقبلها.

من منظور أعمق، يمكن القول إن الخطاب الملكي يمثل نقطة تحول في الوعي السياسي الوطني. فبعد خمسين سنة من المسيرة الخضراء، لم يعد النقاش يدور حول “من يملك الصحراء؟”، بل حول “كيف نجعل الصحراء فضاءً للنمو والاندماج الإفريقي؟”. لقد تحولت القضية من ملف سياسي إلى مشروع حضاري، ومن معركة وجود إلى مسار بناء.

في النهاية، يمكن اختزال الرسالة المركزية للخطاب في فكرة واحدة: من المسيرة الخضراء إلى المسيرة التنموية الكبرى.

فإذا كانت المسيرة الأولى قد حررت الأرض بملحمة شعبية فريدة، فإن المسيرة الثانية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، تحرر الإنسان المغربي من قيود الانتظار والتجزئة، وتؤسس لمغرب موحد، مزدهر، وفاعل في محيطه الإقليمي والدولي.

إنه خطاب يؤرخ لبداية مرحلة جديدة في تاريخ المغرب الحديث، مرحلة الحسم بثقة، والبناء برؤية، والوحدة بإرادة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.