الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة تستضيف عبد الحي مودن: تفكيك لغزية ”اللغة والإيديولوجيا والترجمة” وعلاقتها بإنتاج المعرفة السياسية

تقرير: عبد الرحمان الزْنادي

في سياق الجهود التي تبذلها والأنشطة العلمية التي تنظمها منذ تأسيسها تحت لواء أكاديمية المملكة المغربية، الرامية إلى نشر ثقافة الترجمة وترسيخ الوعي بأهميتها ودورها الرئيس والفعال في النهوض بالثقافة وتوطين الحداثة في استيعاب وإنتاج المعرفة؛

نظمت الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة محاضرة علمية بعنوان: “اللغة والإيديولوجيا والترجمة: حينما تكتب السياسة بلغة أخرى”، ألقاها السيد عبد الحي مودن (أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس-الرباط)، وذلك يوم الجمعة 28 نونبر 2025، ابتداءً من الساعة 5:00 مساءً، بمقر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب بالرباط، بتنسيق السيد عبد الفتاح الحجمري (منسق الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة)، وبحضور نخبة من الأكاديميين والباحثين والطلبة.

وفي الكلمة الافتتاحية للمحاضرة، أشار السيد عبد الفتاح الحجمري إلى أن موضوع المحاضرة تولَّد لديه أثناء انشغاله بمثلث اللغة والإيديولوجيا والترجمة، الذي تتداخل عند زواياه كل الحروب الخفية المتعلقة بالمعنى والتمثُّل وما يتعذر التعبير عنه أو قوله. مضيفًا أن هذا السياق أحاله مباشرة على الأستاذ عبد الحي المودن، لكونه الأقدر على فكّ لغزية هذه المعادلة التي يتشابك فيها الخطاب بالسلطة والترجمة والذاكرة. ليختتم كلمته بتقاسم بعض مما كان يشغله من أفكار وقضايا ترتبط أساسًا بثنائية اللغة والسلطة وعلاقة الإيديولوجيا بالترجمة، والتي تُشكِّل أرضية متكاملة لموضوع المحاضرة.

أشار السيد عبد الحي مودن في بداية محاضرته إلى أن كل اللغات التي تكتب عن السياسة ليست إلا ترجمة للسياسة كممارسة إلى نصوص مكتوبة، أو ممثَّلة بأشكال متنوعة من الوسائل السمعية البصرية، وليست هناك لغة مكتوبة واحدة تُشكِّل مرآة تعكس حقيقة السياسة والممارسة. وهذا ما يجعل كل كتابة عن السياسة ليست سوى ترجمة لها. لينتقل إلى إشكالية تحديد مفهوم السياسة، حيث يرى أنه لا يحظى بتعريف واحد فقط، كونه يخضع لسجالات ذات طبيعة نظرية وإيديولوجية، يمكن حصرها ما بين اعتبار السياسة سلوكًا متميزًا عن غيره من السلوك البشري، واعتبارها إفرازًا لبنيات سوسيو-اقتصادية، أو بكونها محصورة في مؤسسات الدولة وقوانينها ونظامها ونخبها، أو شاملة لكل أفراد المجتمع وشرائحه. وهذا ما قاده إلى تحديد تعريف جامع لمفهوم السياسة، باعتباره مرتبطًا بالسلطة وممارستها ومقاومتها. ويضيف أن المعرفة الأكاديمية تختلف عن غيرها بكونها تعطي الأولوية لفهم السياسة، وليس لتبرير ممارستها، وتعمل على دراسة السياسة كموضوع خاضع لمناهج تتبنى الموضوعية أو تطمح إلى تحقيقها، وبكونها تتأسس على التراكم المعرفي بشأنها، وعلى ما يعرفه هذا التراكم من تطور في البراديغمات والمقاربات المعتمدة في الأبحاث العلمية.

ليصل بعدها إلى الحديث عن السياسة في فترة ما بعد الحداثة، التي تتميز ببروز الاشتغال بالتخصصات المعرفية المختلفة، المنتمية إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبروز لغات الهامش في مقابل لغات المركز. إذ يرى السيد عبد الحي مودن أن الدراسات المنجزة عن السياسة قد راكمت أعمالًا هامة ونوعية، أضافت لها المزيد من الخصوصية والموضوعية، من خلال السعي إلى تفكيك البنى الإيديولوجية الاستعمارية. مشيرًا إلى أن العقود الأخيرة قد شهدت عودة موضوع اللغة التي تُكتَبُ بها المعرفة في سياق فكري جديد، وهو سياق ما بعد الكولونيالية (أو بصيغة راديكالية: فك الارتباط بالكولونيالية) الذي طُرحت فيه اللغة لا كحامل محايد للمعرفة التي تعبِّر عن معرفة كونية، بل كمكوِّن لمعرفة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمركز وسياقاته الثقافية، والتي اعتُبِرَت أنها ليست سوى معرفة محلية، منبثقة عن الخصوصيات الثقافية للمركز بأوروبا، مكتوبة بلغاته، ولكنها احتكرت التحدث باسم الكونية. ومن ثَمَّ، يخلص إلى أن المعرفة عن السياسة ليست كونية بل محلية، وتهدف من خلال دعم أطروحات ما بعد الاستعمار (أو إزالة الاستعمار)، إلى إزالة الصبغة الكونية عن هذه المعارف التي تعتبر نفسها كونية، وإغنائها بمعارف محلية متعددة حتى تتحول بالفعل إلى معارف كونية أكثر شمولية. ومما يدخل في هذا الإطار: الدعوة إلى تبني لغات الهوامش التي هي وحدها المؤهلة للتعبير عن واقع هذه الهوامش، وتملُّك هويتها المتميزة عن المركز.

وبالنسبة للكتابات عن السياسة من لدن أكاديميي العالم الثالث، بما فيهم العالم العربي والمغرب تحديدًا، يرى الأستاذ عبد الحي مودن أن اعتمادها على الخيار العقلاني قد ظل في المرحلة الأولى محدودًا، بالرغم من الترجمات التي أُنجزت لنصوص المنظِّرين الذين اشتهروا عبر العالم بحصولهم على أكبر الجوائز العالمية، وعلى رأسها جائزة نوبل. كما ينسُبُ ضعف انتشار الخيار العقلاني في بلدان العالم الثالث إلى التوجُّس من توظيفاته الإيديولوجية خلال الحرب الباردة من جهة، وإلى النفوذ الواسع -على المستوى النظري- للفكرة الاشتراكية ولقيم التعاطف المجتمعي والتضامن مع الضعفاء، بشكل يتعارض مع الخيارات النفعية التي تُتَّخذ تلبيةً لمصالح فردية، ولمعاداة الاستعمار المرتبطة بالسياسات الليبرالية الإمبريالية من جهة أخرى. ويضيف أنه في المغرب، لم تلبث أن ترسخت لغة الخيار العقلاني في الكتابات الاقتصادية، على أنقاض الماركسية، منذ سقوط المعسكر السوفياتي، والتي ظلت كما في السابق تُحرَّر باللغة الفرنسية أساسًا. وبالنسبة للسياسة، فقد وجدت نظرية الخيار العقلاني مكانتها في ظل الاهتمام بسقوط الأنظمة السلطوية، وتبنيها لأسس الديمقراطية بشكل سلمي، في عدد من بلدان العالم، ابتداءً من جنوب أوروبا في منتصف السبعينات، فيما أصبح يُعرَف بـ الموجة الثالثة للديمقراطية.

يتوقف السيد عبد الحي مودن عند المعرفة السياسية في فترة الربيع العربي، إذ يرى أنها قد أبانَت عن عولمة المصطلحات والأطروحات النظرية التي تُقارَبُ من خلالها الاحتجاجات عبر العالم. ويُرجِعُ ذلك إلى الدور الذي أصبح يضطلع به العالم الافتراضي في تسهيل التواصل بين منتجي المعرفة السياسية. ويضيف أنها قد أظهرت أيضًا هيمنة المعرفة باللغة الإنجليزية على الصعيد العالمي، والدور الرائد للجامعات ومراكز البحث في هذا المجال، ثم في سهولة انتشار هذه النصوص بواسطة الترجمة الإلكترونية. لكن هذه السيطرة المعرفية –على حد قوله- لم تُخْفِ التمايز الحاصل في المرجعيات النظرية للظواهر السياسية ومناهج تحليلها، بما فيها الاحتجاجات التي لم تدخلها عولمة المعرفة السياسية. ليصل في خاتمة محاضرته، إلى ضرورة ووجوب الاعتراف بأن عوالم المعرفة وعوالم السياسة مجالات مختلفة، وهذا ما لا يدع مجالًا لنتوقع أن المعرفة قادرة على سد الهوة بينهما؛ حتى عندما تحمل هذه المعرفة قيمة عملية ذات بال، فلا يكون ذلك إلا في وقت متأخر. مضيفًا أن المسؤولية الرئيسية –على الرغم من ذلك- تبقى مُلقاة على المعرفة، بما فيها المعرفة عن السياسة على خلاف غيرها من مقاربة السياسة: هي السعي الدؤوب للبحث عن حقيقة، حتى ولو كانت مؤقتة، لكي تحافظ الإنسانية على إنسانيتها، رغم مخاطر الظلم والطغيان والتلاعب التي ظلت تواجهها ولا تزال.
ثم فُسِح المجال -بعد ذلك- للمناقشة وتجاذب أطراف الحديث والحوار حول ما قُدِّم في المحاضرة. وقد أثرى الحضور، من أساتذة وباحثين وطلبة، النقاش بطرح عدة قضايا محورية تتعلق بموضوع المحاضرة؛ كان من أبرزها إشكالية المعجم السياسي الكوني، وضرورة الاستفادة القصوى من ترجمات الكتب التي تصدر بالتزامن مع طرحها بلغاتها الأصلية، واستثمارها في تطوير آليات فهمنا للخطاب السياسي المعاصر وتعميق وعينا بأوضاعه وتحولاته. كما ارتقت المداخلات بآفاق الموضوع نحو المستجدات التي يعيشها العالم، تحديدًا الثورة المعلوماتية والتكنولوجية التي تتبلور الآن في صورة الذكاء الاصطناعي، بمميزاته وتحدياته الجديدة على حقل الترجمة وإنتاج المعرفة السياسية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.