حينما يخطىء المجرم ضحيته..!!
*إعداد: عبد الحفيظ محمد
قضية ركن “من أرشيف الجريمة في المغرب” لهذا العدد، بطلها شاب ارتكب جريمة قتل بشعة في حق خادمة تشتغل لدى أرملة عجوز ثرية، ذنبها الوحيد أنها دخلت إلى المشهد في اللحظات الأخيرة من إنطلاق العد العكسي لتنفيذ مشروعه الإجرامي القاضي بالسطو على منزل هذه الأخيرة، لاسيما وأنه بنى خطته على أساس أن المرأة الثرية تقطن لوحدها في شقتها الفاخرة.
وهكذا اختار الشاب ركوب طريق الشر للوصول إلى تحقيق أمانيه، في التخلص من ماضيه البئيس
ونسيان مسلسل الإحباطات الذي لازمه منذ نعومة أظافره، وبدء صفحة جديدة من حياته كان يود أن تكون أكثر هدوءا ونعومة من طفولته ومراهقته ومن جزء من شبابه…
فهل نجح في تحقيق مشروعه الإجرامي؟
هذا ما سوف تكشف عنه فصول هذه القضية.
حياة سعيدة
بدأت فصول هذه القضية، في إحدى المدن العثيقة وسط المغرب، حيث كانت تعيش أسرة ميسورة الحال حياة هادئة، إذ كان رب الأسرة يمتهن التجارة بحذاقة مكنته من أن يصبح منذ سنوات خمسينات القرن الماضي من كبار تجار المدينة بعد أن بات يملك ثروة هائلة.
وبما أن “كل نفس ذائقة الموت”، فقد سلم التاجر صاحب النفس المطمئنة الروح إلى باريها بعد عمر طويل وحياة مليئة، تاركا وراءه، بالإضافة إلى ثروته، بطبيعة الحال، أرملة سبعينية وجدت نفسها فجأة تعيش شبه وحيدة لأن أبناءها فضلوا منذ بلوغهم سن الرشد الهجرة والإستقرار بشكل دائم في أوروبا وأميركا.
وعلى الرغم من كونها باتت تجلس على ثروة هائلة كحقها من تركة زوجها، فإنها انتقلت من الفيلا الفخمة حيث عاشت حياتها الزوجية إلى شقة راقية تقع في وسط المدينة، وكان يتناوب على خدمتها ومؤانستها في وحدتها امرأتان كانتا لا تتركانها لوحدها ولو للحظة واحدة مهما كانت الظروف، فاقتحمت غمار مجال الأعمال إذ أشرفت على عملية تسيير بعضا من تجارة زوجها الراحل، وأصبحت ثروتها كما حياة وحدتها معروفة لدى جميع سكان المدينة، وتتداولها الأللس منذ رحيل زوجها إلى دار البقاء.
حياة بئيسة
وفي الطرف الآخر من المدينة نفسها، كان يقطن بحي شعبي من أحياء الضواحي، المسمى (ه.ل)،24 سنة، ويعيش حياة ملؤها البؤس مع نصف دزينة من الأشقاء والشقيقات كلهم بدون عمل تقريبا، وتحت وصاية أب مسن ومريض يعمل مياوما، وأم ربة بيت كانت مساهمتها لا تتجاوز بالكاد القيام بأشغال الأسرة الكلاسيكية التي هي سمة معظم نساء مستواها الاجتماعي.
وفي هذا السياق القاسي، لم يتمكن (ه.ل) من إتمام دراسته التي لم تتجاوز المستوى الأول من التعليم الإعدادي، ولم يتمكن أيضا من الحصول على أي دبلوم مهني أو تقني، الذي قد يمكنه من ولوج سوق الشغل بسلاسة. ويوما بعد آخر، بات يأسه يكبر وطموحاته تنكسر وآفاقه تضيق.
وفي يوم من الأيام، وبينما كان الشاب (ه.ل) مدعوا إلى حفل عائلي، بلغ إلى مسامعه صوت إحدى قريباته وهي تتحدث عن إمرأة عجوز، وكان حديثها مليء بالثناء على هذه السيدة اللطيفة وعن إحسانها وثروتها وحياتها، لاسيما بعد أن فقدت زوجها وتعيش وحيدة في منزل كبير وسط المدينة.
ومن دون أن يلفت الإنتباه كثيرا إليه، ظل الشاب يسترق السمع إلى حديث قريبته التي كانت تتكلم كثيرا عن الأرملة من دون أن تلجم كلماتها أو تدرك بأن هناك من يتابع أقولاها باهتمام كبير، كما هو الحال يالنسبة للشاب، الذي كان مهتما كثيرا بالمحادثة، حيث كان يجمع في ذاكرته حد أقصى من المعلومات عن هذه السيدة وعاداتها وكذلك عن الحي الذي تقطن فيه.
ومن هنا، سطر الشاب في ذهنه بالفعل، خطة أولية معتقدا أنها قد تمكنه من الخروج من حياة البؤس والشقاء، وأن كل ما بات يحتاجه الآن سوى تحسين خطته وتصميم مشروع ناجع وفعال لوضعه حيز التنفيذ في الوقت المناسب.
خطة حياة
ومنذ اليوم الذي سمع فيه ذلك الحديث، الذي دار في الحفل حول تلك الأرملة الثرية، بات الشاب (ه.ل) يتصور نفسه بالفعل ثريا أيضا…
إذ أصبح مسكونا تماما بنجاح خطته، التي أضحت بالنسبة إليه فرصة العمر، والتي كان قد انتهى بالفعل من وضع اللمسات الأخيرة عليها قبل الشروع في تنفيذها على أرض الواقع…
كانت هذه الخطة تهدف الذهاب إلى لقاء هذه السيدة في منزلها تحت أي ذريعة كانت، لكي يفاجئها ويأمرها تحت طائلة التهديد إذا لزم الأمر، لتدله على الأماكن التي تخفي فيها كل ثروتها، من حلي ومجوهرات وكل ما غلا ثمنه وخف وزنه لكي لا تجعله معرضا للشبهة بعد ذلك، حيث سيستحوذ عليها بكل سهولة وينسحب بهدوء من دون الحاجة للجوء إلى استعمال العنف تجاه ضحيته…
وكانت هذه التفاصيل تمر في ذهنه مثل أحلام اليقظة، التي ستجعل منه رجلا ثريا سيعيش على نحو أفضل، وسيساعد عائلته على توديع الفقر بدون رجعة، وبالتالي لن يلحق أي أذى جسدي بالضحية التي ستخرج سالمة معافة.
هذه السيدة، التي في كل هذه القصة بالنسبة إليه، سوف لن تفقد سوى جزء ضئيل من ثروة كبيرة تكفيها وأكثر لتضمن لها حياة كريمة بقية حياتها.
المرور إلى الفعل
ولما نضجت خطته، التي أحاطها بأقصى درجة من السرية، إنتقل (ه.ل) إلى مرحلة التنفيذ حيث حمل سكينا تحت سترته لاستعماله عند الضرورة، وبعد ذلك، امتطى الحافلة المتجهة نحو وسط المدينة…
ولما وصل في نهاية الظهيرة، أي قبل غروب الشمس بقليل، وتحت ذريعة أن له موعد مع أحد قاطني العمارة، تمكن من الإفلات من يقظة وقلة تبصر حارس العمارة، الذي سمح له باستعمال المصعد.
وحين وصل إلى الطابق المطلوب وضغط على زر جرس شقة منزل الأرملة العجوز، كانت دهشته كبيرة عندما تم فتح باب الشقة من قبل امرأة شابة أبلغته بأنها خادمة لدى ربة البيت.
وبما أنه جانح مبتدئ، بل وحتى مبتدئ في مجال الجنوح، ظل واثقا بحزم في نجاعة وفعالية خطته بالرغم من تغير المعطيات، ولم يفكر لحظة في هذا المتغير الدخيل المتمثل في الخادمة والذي بسببه ستنقلب خطته رأسا على عقب…
نقطة اللاعودة
وأمام الظهور غير المتوقع للخادمة، سرعان ما تمالك الشاب دهشته ووجد الجواب المقنع، من خلال التظاهر أمامها بأن إحدى قريباته تعمل لدى السيدة العجوز في أحد متاجرها، قد أوصت بشأنه لدى مشغلتها لمساعدته على إيجاد عمل يتناسب مع وضعه.
وأمام رد الفعل السريع للشاب لم تجد الخادمة البشوشة (ت.أ)، 50 سنة، أي مبرر لصده، فطلبت منه ليس فقط الإنتظار في بهو الشقة، الذي تستغله الأرملة الثرية بمثابة غرفة جلوس، بل قدمت إليه كأس شاي وشيء من الحلوى، وطلبت منه إنتظار الأرملة حتى تودع ضيوفها الذين استقبلتهم قبل لحظات.
وبينما كان الشاب (ه.ل) يجلس في بهو الشقة، لاحظ بالفعل، وجود امرأتين برفقة ربة البيت تستعدان لمغادرة الشقة.
وبمجرد ما غادرتا بيت الأرملة العجوز حتى جاءت هذه الأخيرة لمقابلة الشاب.
وبعد أن استمعت بعناية إلى طلبه، وعدته بأنها ستبذل قصارى جهدها لكي تجد له عملا في مكان ما، ثم انسحبت على الفور متجهة إلى داخل شقتها.
ولما غادرت الأرملة بهو الشقة، بقي الشاب وجها لوجه مع الخادمة (ت.أ)، حيث اعتقد الزائر المجهول أن الشقة باتت فارغة الآن، مما دفعه إلى الإقتراب خلسة منها ليفاجأها من الخلف بطعنة قوية غادرة بواسطة سكين حتى انغرس في ظهرها مع محاولة خنقها باليد الأخرى لمنعها من الصراخ طلبا للنجدة.
لكن الخادمة دافعت بكل ما أوتيت من قوة عن نفسها وبشجاعة ناذرة وهي تصرخ بصوت عال في محاولة لردع المعتدي.
إلا أن هذا الأخير ونظرا للذهول الذي أصابه، تمكن بسرعة من سحب السكين، الذي كان منغرسا
في ظهر الضحية، ثم وجه إليها بواسطته طعنة قوية أخرى إلى صدرها.
وفي هذه الأثناء، ظهرت الأرملة العجوز في البهو المجاور للمطبخ مسرح الجريمة برفقة امرأة شابة تعمل في مجال الرعاية الطبية إعتادت على القدوم إلى بيت الأرملة لتقدم لها العلاج بشكل منتظم.
وبمجرد أن لمحهما الشاب حتى أطلق ساقيه للريح بسرعة تاركا ضحيته بين الحياة والموت، ومسدلا الستار على خطته الأولية المرتكزة على إرغام الأرملة بأن تعطيه جزءا كبيرا من ثروتها تحت طائلة التهديد فقط.
وعلى الرغم من هول المشهد تمكنت الأرملة العجوز من تمالك نفسها حيث اتصلت على الفور بمصالح الشرطة والوقاية المدنية على الخصوص، التي انتقلت على عجل إلى عين المكان، حيث قدمت الإسعافات للضحية التي تم نقلها على الفور إلى المستشفى، لكنها توفيت في الطريق متأثرة بجراحها قبل أن تصل إلى وجهتها…
فشل ذريع للخطة
إذا كان لنا أن نعتمد على اعترافات الشاب (ه.ل)، فإن هذا الأخير لم يخطط لجريمة قتل، بل لعملية سطو فقط، كان يفكر في ارتكابها من دون اللجوء إلى استعمال العنف ضد سيدة عجوز بدون حماية، حيث يكون التهديد بواسطة السلاح الأبيض كافيا في الحالات القصوى لانتزاع كل ما يريد الحصول عليه منها، فقط لتنجو بحياتها.
أما عن قتله للخادمة، فقد ادعى أنه كان مجرد ضرر جانبي حدث فقط من أجل إنجاح خطته لسرقة الأرملة الثرية، ولو لم تكن تلك الممرضة “اللعينة” حاضرة في تلك اللحظة رفقة العجوز داخل المنزل والتي لم يتمكن من القضاء عليها
بدورها لبقي وجها لوجه مع طريدته داخل شقتها.