حينما يهز سياح مزيفون إستقرار القطاع البنكي..!!

* عبد الحفيظ محمد

نتناول في ركن “من أرشيف الجريمة في المغرب” قضية تعود بنا فصولها سنوات إلى الوراء، وبالضبط إلى سنة 2009، للنبش في شبكة إجرامية رومانية كانت متخصصة في تزوير بطاقات الشبابيك البنكية وتزاول نشاطها الإجرامي بالدار البيضاء، حيث هزت عملياتها ليس فقط القطاع البنكي فحسب، بل تمكنت أيضا من تدويخ عناصر الشرطة المكلفين بالتحقيق بسبب قانون الصمت الذي يلفها، بالإضافة إلى التحركات الحذرة لأفرادها، زد على ذلك أنها كانت تمارس نشاطها في جنح الظلام لتفادي إثارة الانتباه.. وعلى الرغم من ذلك، فإن الشرطة كانت لها بالمرصاد، إذ تمكنت عناصرها من تفكيكها ووضع حد لنشاطها الإجرامي، حيث تبين من خلال أبحاث المصالح الأمنية، أن الشبكة نفذت مجموعة من عمليات السحب من الشبابيك البنكية بالدار البيضاء، إذ استولت على الملايين بالاعتماد على مجموعة من الآليات المتطورة التي تستعمل في تزوير وقراءة بطائق الائتمان.  

 

تمكنت مصالح الشرطة بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، في منتصف شهر ماي من سنة 2009، من تفكيك شبكة إجرامية رومانية كانت متخصصة في تزوير بطاقات الشبابيك البنكية الأتوماتيكية، متكونة من خلايا وزعت المهام في ما بينها، هذه المهام التي تبدأ بتصوير الأرقام السرية لزبناء هذه الشبابيك بواسطة كاميرات دقيقة قبل استنساخ المعطيات الواردة فيها في بطاقات فارغة، وبعد ذلك يتم استعمالها في عمليات سحب غير قانونية بشكل مكثف.
وقد تم بالإضافة إلى حجز مئات البطائق الفارغة حجز معدات دقيقة كانت تستخدم في عمليات التزوير.

بطاقات مزورة

تعود وقائع هذه القضية التي استأثرت باهتمام الرأي العام المحلي إلى 16 ماي 2009 ، عندما بدأ فندق “نوفوتيل الدار البيضاء” في الاختبار الدوري لمولداته الكهربائية. وبما أن هذا الاختبار يستدعي اللجوء إلى قطع التيار الكهربائي، فإن هذا القطع كان يتسبب في توقف أبواب مكافحة الحريق. وبالتالي كان يجب على الكهربائي إعادة فتحها، الواحد تلو الآخر، بدءا من الطابق تحت الأرضي حتى الطابق العلوي. ومن أجل ذلك، قام بإزالة الأجهزة المتحكمة في السقوف المموهة للممرات على مستوى المصعد الرئيسي للوصول إلى المرفقات الكهربائية.
لكن الكهربائي وبمجرد وصوله إلى الطابق السابع عشر، سيفاجأ بعثوره على جهاز حاسوب محمول مخبأ بعناية في أحد أروقته، بالإضافة إلى جهاز تعبئة بطاريات الحاسوب وكاميرا ويب، وكيس أبيض من الكارطون.
وعندما نزل إلى الأسفل وفتح علبة الكارطون، وجد بداخلها كمية كبيرة من البطاقات البلاستيكية مع أشرطة مغناطيسية وصل عددها إلى 1277 بطاقة.

لكن دهشة التقني ستزداد حينما عثر في بوابة سرداب الطابق الثامن عشر على جهاز إلكتروني صغير يوجد به أخدود في الوسط والذي تعرف عليه معلوماتي الفندق بأنه جهاز لقراءة البطاقات البنكية، حيث كان معبأ بعناية وسط كيس خاص بالفندق مخصص لتسلم الغسيل المتسخ ويحمل رقم الغرفة 1718.
ومن هنا، انطلق الحراس بعد تنبيههم إلى إعادة النظر في جميع الأسقف المموهة حيث عثروا أيضا على 99 بطاقة بنكية أخرى…
وبالرحوع إلى سجلات زبناء الفندق في مكتب الاستقبال، تم التأكد من خلاله بأن الغرفة رقم 1718 كان ينزل بها حتى وقت قريب المسمى نيكولا يحمل الجنسية الرومانية.
وفي الطابق التاسع كان يقيم، في أوائل أبريل من سنة 2009، روماني آخر في الغرفة رقم 902 المجاورة.
من هنا، تذكرت المسؤولة عن تدبير الفندق بأن إحدى عاملات النظافة سبق لها أن وجدت في نفس الفترة وفي ذات الغرفة على 115 بطاقة إئتمان أخرى، كانت قد اعتقدت أنها فقدت وكانت موضوعة في مكتب الأغراض الضائعة. لذلك لم يلاحظ أي أحد شيئا مريبا.
والآن، مع وجود 1491 بلاستيك أبيض، أخذت القضية بعدا آخر، حيث تم إخطار الشرطة بالأمر.

حركات للتمويه

تمكن المحققون من تحديد هوية نيكولا وتم رفع تقرير يتضمن معلومات حوله. حيث كشفت هذه المعلومات بأن الأمر يتعلق بشاب أسمر أنيق الهندام، وله عينان سودوان وبدانة أطفال الأثرياء،… وهذه هي المرة الرابعة التي ينزل فيها بهذا الفندق، وقد أكسبه البقشيش الذي كان يوزعه يمينا ويسارا المزيد من الاحترام وجعله يحظى برعاية خاصة من قبل الطاقم المسؤول على مصلحة الاستقبال. وآخر مرة شهد فيها كانت تتواجد بين ذراعه إمرأة شقراء مزيفة.
وكان نيكولا ينزل دائما إلى حانة الفندق رفقة هذه الشقراء وإسمها “نونا” بعد الظهيرة، حيث كان يتبادل النخب مع أصدقائه الذين يتحدثون الرومانية، ولم يكن يكترث لمستوى الأسعار الباهظة حيث لم تكن تمنعهم من الاستهلاك بنفس الوتيرة والعيش في بحبوحة لأن السيد نيكولا كان يتكلف بتسديد قيمة الفاتورة، وفي نهاية الأمسية يصعد نيكولا إلى غرفته لتغيير ملابسه، ومن ثمة يغادر الفندق على متن سيارة مستأجرة مع أصدقائه وكان لا يعود حتى الفجر.

فهذه الحركات الصادرة عن نيكولا لم تكن سوى للتمويه والغرض منها تسويق صورة إيجابية عنه قد تشكل واقيا له من أي شبهة، ولكن في الحقيقة، فهذا الأخير يسمى في هذا الوسط بـ”بغل”، مثل دراكولا لديه حياة ليلية مليئة. وكمصاصي الدماء، فإن تخصصه هو امتصاص الأوراق المالية من شرايين الشبابيك البنكية الأوتوماتيكية.
ومع ازدياد عمليات السحب بدأت التنبيهات تتهاطل على الأبناك في حين كانت هذه الأخيرة تستغيث طلبا للمساعدة.
هذا الوضع خلق حالة استنفار وسط مصالح الشرطة القضائية التي شددت مراقبتها على مستوى الشبابيك البنكية الأتوماتيكية في جميع المدن السياحية. إذ تم تكوين خلية أزمة على مستوى المصالح المركزية حيث بدأت تعمل على تحليل الشكاوى التي تصلها لمعرفة طريقة عمل هؤلاء الجناة مع مصفوفات زمكانية قادرة على التنبؤ أين ستتم الغارة المقبلة، وفقا لخارطة طريق هيأت سلفا، ولكن دون جدوى…

حدس التجربة

وفي الصباح الباكر من يوم 3 يونيو 2009، وبينما كان سائق الطاكسي المسمى “عزيز” كعادته ينتظر بهدوء في محطة الطاكسيات بمحج الجيش الملكي بالدار البيضاء خروج أحد زبناء فندق شيراتون، أثار انتباهه تصرفات مريبة لسائحين شابين وهما في طريقهما نحو الشباك الآلي لوكالة بنكية واقعة بنفس المحج… حيث كانا ينظران خلفهما بريبة مثل اللصوص وكأنهما يريدان أن ينفذا شيئا ما من دون أن يثيرا انتباه أي أحد، لكن عيون السائق “عزيز” كانت لهما بالمرصاد.
فعند وصولهما إلى مستوى الشباك، أخرج أحدهما بطاقة إئتمان وأدخلها في المكان المخصص لها، في حين يبدو الآخر وكأنه يقوم بدور الحراسة، وبعد ذلك غادرا هذا الشباك نحو شباك التجاري وفا الواقع بالمحج عينه.

حتى الآن يبدو أمر السائحين الشابين عادي جدا، فتوجههما من شباك أوتوماتيكي إلى آخر ربما مرده إلى كون الشباك معطل، أما النظر إلى الخلف أو أن يلعب أحدهما دور الحارس فربما مرد ذلك إلى التوقيت ليس إلا، حيث من الطبيعي أن يأخذ المرأ حذره وهو في مثل هذا الموقف. لكن كان للسائق “عزيز” بحكم تجربته رأي آخر. حيث بدا له أمرهما مريبا وتصرفاتهما غريبة مما دفعه إلى مغادرة سيارته وإبلاغ دورية للشرطة كانت متوقفة بالقرب من موقع الفندق.
وبمجرد توصلها بتبليغ سائق الطاكسي، توجه عناصر الشرطة بمعيته نحو الشباك الأتوماتيكي لوكالة “التجاري وفا” لاستجلاء الأمر، وعند المنعطف أصبحوا وجها لوجه مع أحد المعنيين بالأمر الذي أطلق ساقيه للريح عند رؤيتهم…
ومن هنا، انطلقت عملية مطاردته من قبل رجال الشرطة والسائق “عزيز” أيضا، حيث ترك كيسا يسقط من جيبه قبل توقيفه.
فهذا الكيس الذي لم يتم العثور عليه من قبل عناصر الشرطة، عادت للبحث عليه من جديد، لكن في الحقيقة توصل عناصر الشرطة إلى أن الكيس المذكور سبق أن وجده رفيقه وفر هاربا. وعند الاستماع إلى السائح الشاب من قبل الشرطة، صرح بأن اسمه كريستيان أما اسم زميله فهو نيكولا.

استرداد المعدات المفقودة

قام فريق التحقيق المكلف بملف كريستيان ومن معه بإقامة مقاربة مع لغز فندق “نوفوتيل الدار البيضاء” حيث عرض المعني بالأمر على مستخدمي الفندق الذين تعرفوا عليه بسهولة كواحد من مساعدي نيكولا. وفي حوالي منتصف النهار من اليوم نفسه، شاهدت “عاملة النظافة” بالجناح الأيمن من الطابق الخامس للفندق المذكور بعد انتهائها من ترتيب أحد الغرف، وإغلاقها لباب الغرفة متوجهة إلى البهو، شابين يبدو من سحنتهما أنهما أجنبيان حيث وضع أحدهما منفضة سجائر وسط الممر وصعد عليها للوصول إلى إحدى لوحات الجبس المكونة للسقف المموه، في حين منع الثاني المصعد الرئيسي من د بوضع ساقه أمام الخلية الضوئية للباب لشل حركته. ولما تفاجأ الشاب برؤية عاملة النظافة نزل من فوق منفضة السجائر متظاهرا بالبحث في جيوبه عن شيء ما، في حين نزل الآخر عبر الدرج.
أعادت عاملة النظافة منفضة السجائر إلى مكانها وكأن شيئا لم يقع، ثم دخلت إلى غرفة أخرى. وبعد مرور فترة من الوقت، دفعها فضولها للخروج مرة أخرى إلى الممر حيث رأت أن نفس الشخص لا يزال يقف على منفضة السجائر وهو منهمك في دفع لوحة الجبس التي يتكون منها السقف المموه، فرجعت أدراجها لأخذ هاتفها المحمول وإخطار أمن الفندق بما شاهدت.

لكن إخباريتها وصلت متأخرة إلى أمن الفندق، فقد سجلت كاميرات المراقبة أن المعنيين بالأمر انصرفا مهرولين من الفندق حيث يظهر المسمى نيكولا وهو يسد المصعد بقدمه، ليتم إشعار الشرطة بالأمر من جديد.
وبالفعل، توقع المحققون بأن “نيكولا” قد يكون بحث في كل الأسقف المموهة للفندق منذ اختفاء معداته، معتقدا أنه عندما كان في حالة سكر، يمكن أنه قد أخطأ الطابق ودسها في المكان الخطأ.
أخذ المحققون المبادرة، وقاموا بعملية تمشيط شملت جميع فنادق الدار البيضاء بحثا عن د، الذي سرعان ما توصلوا إلى مكان تواجده، وبالضبط في فندق الدار البيضاء رفقة شريكيه غابرييل وكورنيل، وبحوزته دليلين سياحيين للمغرب، كمكدحيث خبأوا 32 ورقة نقدية من فئة 500 أورو، وتذاكر سفر على متن الطائرة في اليوم التالي والتي سيفوتها بالتأكيد.
وكم كانت صديقته “نونا” جد محظوظة لأنها غادرت المغرب صباحا متأبطة دليلين سياحيين آخرين للمغرب … محشوين بشكل جيد متوجهة إلى “كريوفا” في رومانيا بلد “نيكولا” ورفاقه.

طريقة العمل

نجد تفسير طريقة عمل الشبكة الرومانية من خلال تحليل حاسوبها المحمول الذي تم حجزه. فبالإضافة إلى عدد وافر من بيانات بطاقات الائتمان المسجلة، نرى لقطات فيديو لشباك بنكي بوضع كاميرا صغيرة جدا أفقيا لتسجيل بواسطة جهاز فيديو أصابع يد الزبون وهو ينقر رقم بطاقته السري على لوحة الشباك الآلي.

كما تم زرع جهاز إليكتروني دقيق عن طريق الاحتيال في الفتحة المخصصة لإدخال بطاقة الإئتمان حيث يقرأ ويسجل بيانات الأشرطة المغناطيسية للبطاقات البنكية التي يتم إدخالها.
وبعد جمع هذه البيانات، يتم نقلها إلى ميكروحاسوب، ومن ثمة إلى “بطاقات فارغة” من أي معطيات مهربة باستخدام جهاز تشفير.
وعند الإنتهاء من هذه العملية لم يبق أماكم المزورين سوى الذهاب في جنح الظلام لتجنب لفت الانتباه إلى أقرب شباك أوتوماتيكي لإخراج المبالغ المالية، ثم العودة في الصباح، لإعادة الكرة من جديد عندما يتم تغذية عتبة المبالغ المسحوبة يوميا. وبعد ذلك يلجأ أفراد الشبكة إلى إخفاء الأجهزة المستخدمة في عمليات التزوير داخل لوحات الجبس للأسقف المموهة للفندق حتى تكون في متناول اليد ولتجنب حملات الشرطة.
ويأتي تفكيك هذه الشبكة الرومانية الإجرامية التي عاتت فسادا في الشبابيك البنكية الأوتوماتيكية في المغرب بعد اشتداد الخناق على المافيا الرومانية في أوروبا، والتي تمكنت من استقطاب كفاءات متخصصة في مجال المعلوميات لتزوير بطاقات الإئتمان، وذلك منذ انظمام هذا البلد إلى حضيرة الاتحاد الأوروبي حيث غزت الشبابيك البنكية الأوتوماتيكية في القارة العجوز قبل أن تشدد أوروبا أمن شبابيكها الأوتوماتيكية بمضاعفة البطاقات البنكية المستعصية على التزوير إلى حين، وكاميرات المراقبة وجعلت بالتالي الحياة صعبة بالنسبة لرومان العصر الرقمي…

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.