حتى تعرف الأجيال من هو الأستاذ أحمد بن سودة

*حمزة الأمين

الكثير من الأجيال المعاصرة لا تعرف الرجالات الذين عانوا الكثير من أجل وطنهم وتحريره واستقلاله، وأهم ما تسبب في ذلك هو التحزب الأعمى المقيت. هذا المرض كان السبب في إخفاء أو قلب الكثير من الحقائق، فكم من بطل ومناضل لا يُقال عنه شيء، فيما يُحوَّل آخرون إلى أبطال مغاوير لكونهم منتمين إلى أحد الأحزاب المهيمنة آنذاك.
لذلك قررتُ -بإذن الله- أن أكتب من حين إلى آخر عن شخصية وطنية من الشخصيات التي أعطت الكثير لوطنها في سبيل كرامته. والشخصية التي أريد التحدث عنها اليوم هي شخصية الأستاذ المجاهد أحمد بن سودة -رحمه الله- وذلك بمناسبة الذكرى الـ16 لوفاته التي تصادف يوم الـ26 من أبريل.
ويعتبر المرحوم إحدى الشخصيات البارزة في الحقل الوطني، والمشهود لها بكفاحها المرير في سبيل استقلال المغرب وكافة الدول العربية والإفريقية، والتي ذاقت أنواعا وصنوفا متعددة من التضييق والتنكيل من قبل الاحتلال الفرنسي الذي كان جاثما بثقله على ربوع وطننا..
وهو من مواليد سنة 1920 بالعاصمة العلمية فاس. وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية من المدرسة الشرادية التي كانت عامرة بعلماء أجلاء مثل مديرها الأستاذ محمد بن عبد الله والحسين بن البشير ومحمد بن بوطالب وغيرهم رحمهم الله، وبعدما تزود بالعلوم الدينية والأدبية والعربية، ولج أبواب جامعة القرويين، وتابع دراسته بها فكان شعلة مضيئة، وفيها تلقى العلوم التي كانت تدرس بها من الفنون الدينية والأدبية والفقهية والتاريخية والجغرافية والحسابية وغيرها..
وأثناء الدراسة سنة 1933، انخرط في كتلة العمل الوطني وهو لايزال فتى صغير السن. وعندما وقع انشقاق في كتلة العمل الوطني سنة 1936، التحق صحبة رفيق دربه عبد الهادي بوطالب، إضافة إلى آخرين من رفاقه المناضلين، بالحركة القومية التي كان يرأسها الزعيم الوطني محمد حسن الوزاني، والتي تحولت في ما بعد إلى حزب الشورى والاستقلال، فكان من قادتها ومن أشهرهم بمواقفه الشجاعة، كما عرف بارتجال الخطب الحماسية على حداثة سنه..
لذلك لفت أنظار السلطات الاستعمارية الفرنسية التي أصبحت تراقب حركاته وسكناته، وأصبحت عائلته تشفق عليه من نشاطه الظاهر والبارز، وطلبت منه بعض الاعتدال في مواقفه الجريئة، لكنه كان لا يبالي ولا يتزحزح عن مبادئه التي شربها في ريعان شبابه. إلا أن ما كانت عائلته وأقرباؤه يخافون منه هو ما حصل بالفعل، حيث تم اعتقاله وهو ابن 19 عاما، حيث قضى ستة أشهر وواحدا وعشرين يوما بالسجن سيئ الذكر المسمى “برج النور”، هذا السجن الذي هو في الحقيقة برج الظلام وليس برج النور، حيث قضى فيه مدة طويلة لم يبصر أثناءها نور الشمس، لذلك حزنت أمه على فلذة كبدها حزنا عميقا، وكان هذا الحزن الشديد هو السبب الرئيس في وفاتها وهي في الـ39 من عمرها فقط، مما ينم عن هول الفاجعة التي ابتلي بها بسبب فقدانه لأمه بهذه الطريقة جراء نضاله وحماسته.
ثم حكمت عليه المحكمة للمرة الثانية بتاريخ 10 مايو 1940 بسنتين حبسا، والإبعاد من مدينة فاس مدة 20 عاما.. ثم نقل إلى سجن القنيطرة، وفي هذا السجن تمكن من تعلم اللغة الفرنسية (فكم من نقمة في طيها نعمة).
وبعد ذلك، تم نفيه إلى تاونات التي قضى بها ثلاث سنوات تحت مراقبة رئيس الدائرة الكولونيل “ماسي دوبياس”. وبالرغم من المراقبة، كان يتصل بالمواطنين وينظم الخلايا. ثم نقلوه مجددا إلى فاس وجعلوه تحت الإقامة الجبرية. وأثناء تقديم عريضة الاستقلال الخاصة بالحركة القومية في 13 يناير 1944 (بعدما تم تهريب وثيقة 11 يناير من قبل جماعة من الحزب الوطني!) شارك في التوقيع عليها، فزج به بسببها في غياهب السجون للمرة الرابعة، وهذه المرة في سجن العذير بضاحية مدينة الجديدة، حيث قضى به نصف عام إلى أن أفرج عن كل المسجونين السياسيين يوم 14 ماي 1945 إثر العفو الذي صدر آنذاك في حق الوطنيين.
ولما عاد إلى فاس، خاض تجربة النضال من بوابة التعليم الوطني بتأسيسه لمدرسة حرة. بعد ذلك، التحق بهيأة التدريس لأكبر وأشهر مؤسسة وطنية للتعليم الحر بالدار البيضاء، وهي مدرسة مولاي الحسن الحرة التي كان يسميها البعض بـ”العلمية” نسبة إلى مديرها المؤسس الأستاذ محمد العربي العلمي (خريج القرويين وأحد رجالات الحركة الوطنية ومن مؤسسي حزب الشورى والاستقلال).
وحينما فكرت قيادة الحزب في إصدار جريدة “الرأي العام”، تم اختياره بالإجماع مديرا لهاته الجريدة التي أصبحت لسان الحزب منذ تاريخ 15 أبريل 1947. وكان ينشر مقالات في الجريدة تحت عنوان: “حديث المفتي”، يتناول فيها السياسة بأسلوب فكاهي هزلي، فكان يعالج كثيرا من المشاكل بما عرف عنه من مستطرفات ومستملحات ومقامات حريرية تعجب القراء وتترك أثرها البعيد في نفوس رجال الحكم، فكانوا يتبرمون من لدغاتها وغمزاتها.
وفي سنة 1952، حوكم بصفته مديرا لجريدة “الرأي العام” لانتقاده الظلم المسلط على الفلاحين بنواحي بني ملال من طرف “المعمرين الفرنسيين” أصحاب الضيعات الفلاحية..
وللدفاع عن القضية المغربية بأروقة الأمم المتحدة، توجه إلى نيويورك بأمريكا منضما إلى وفد حزب الشورى والاستقلال برئاسة زعيمه محمد حسن الوزاني.
بعد ذلك، دخل فرنسا وواصل نشاطه السياسي صحبة زملائه أعضاء المكتب السياسي للحزب الأساتذة عبد الهادي بوطالب وادريس الكتاني، بتنسيق واتصال مستمر بالزعيم الوزاني بسويسرا في إطار النضال المشترك لصالح تحرير البلاد واستقلالها وعودة ملكها الشرعي محمد الخامس إلى عرشه.
ثم شارك مع وفد الحزب في محادثات “إكس ليبان” شهر غشت 1955 مع زملائه الأساتذة محمد الشرقاوي وعبد الهادي بوطالب، برئاسة الأستاذ عبد القادر بن جلون الأمين العام بالنيابة. ولما استقلت البلاد، تولى أول وزارة للشبيبة والرياضة في الحكومة الأولى بعد الاستقلال التي ترأسها السيد مبارك البكاي في دجنبر 1955، وابتداء من أكتوبر 1956 تأسست الحكومة الثانية برئاسة نفس الشخص، أي مبارك البكاي، لكنها عرفت إقصاء حزب الشورى الذي تولى مهمة المعارضة..
وبدأ بن سودة نضاله الثاني الذي كان لا يقل قسوة عن النضال الأول، إلا أن الخصم هذه المرة لم يكن، ويا للحسرة، سوى رفيق النضال الأول الذي انفرد بالسلطة بكل هياكلها وسيطر على جميع مفاصلها، مع ما عقب ذلك من توزيع للغنائم والمناصب وغيرها..
فتحمل حزب الشورى ورجاله المقاومون والسياسيون المحن، وقاسى معه كل المناضلين غير المنتمين إلى الحزب الحاكم، وخاصة المنظمة العتيدة (الهلال الأسود). ومن أراد أن يعرف الكثير من تفاصيل الحقيقة المؤلمة، فعليه بقراءة كتاب “شهداء وجلادون” لصاحبه محمد وحيد، وكتاب “دار بريشة” للحاج احمد معنينو رحمه الله.
وتجدر الإشارة إلى أن القادة الشرفاء لـ(الهلال الأسود) تعرضوا لشتى أنواع الاختطافات والاغتيالات (على رأسهم الشهيد عبد الله الحداوي)، إضافة إلى الأطفال الذين تيتموا والنساء اللواتي ترملن عوض الفرحة بنعمة الاستقلال..
وكل ذلك من أجل “العروسة” التي كان يعني بها المرحوم بن سودة الديمقراطية والشورى، و”الغولة” التي كان يقصد بها الاستبداد والديكتاتورية، حيث كان يرددها بصوته الجهوري خلال المهرجانات الخطابية واللقاءات الجماهيرية التي كان يؤطرها بحضورنا نحن التلاميذ اليافعين والقيادات الميدانية آنذاك..
وعقب تضايق خصوم “العروسة” حسب لغة المرحوم بن سودة، خاصة بعد مهرجان ضخم أقيم بمدينة خريبكة سنة 1958، قرروا تسليط “غولتهم” فكان القرار الجائر وهو إغلاق مقر جريدتي الحزب، أي “الرأي العام” الناطقة بالعربية والتي كان مديرَها للتذكير، و”الديمقراطية” الناطقة بالفرنسية والتي كان يديرها الأستاذ محمد الشرقاوي.
وتوالت الأحداث، وجاء قرار الملك محمد الخامس، رحمه الله، بعزل ادريس المحمدي وزير الداخلية وتعيين مسعود الشيكر، مدير الديوان الملكي، مكانَه على رأس وزارة الداخلية، وكان قرارا حكيما لأن المحمدي ارتكب ظلما في حق حزب الشورى بعد مهرجان خريبكة بتقرير كاذب يدعي فيه أن أنصار الحزب نشروا شعارا ضد الملك، حيث رفع تقريرا فيه أشياء غير حقيقية، ولمّا عرف جلالة الملك الحقيقة بواسطة رجاله اتخذ قراره بعزل وزير الداخلية، وحدث تصدع كبير داخل الحكومة.
ومع مطلع سنة 1959، أعلنت جماعة من الحزب الحاكم الانفصال عن حزبها بزعامة المهدي بن بركة، وشاءت الظروف السياسية أن يتم الاتصال بين الأستاذين الكبيرين عبد الهادي بوطالب والمهدي بن بركة ومعهما مجموعة من رفقاهما، فاتفقوا وقرروا الانفصال عن أحزابهم الأصلية وتكوين حزب جديد في شتنبر 1959 تحت مسمى “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، وكان الأستاذ بن سودة بدوره من ضمن المؤسسين للاتحاد.. ولما اعتقل الفقيه البصري، مدير جريدة “التحرير” وهي لسان “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، إضافة إلى رئيس تحريرها الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، أصبحت جريدة “الرأي العام” بفضل السيد بن سودة هي الناطقة باسم الاتحاد عوضا عن جريدة “التحرير” في شتنبر 1959.
وبعدما توفي ملك البلاد المحرر محمد الخامس، رحمه الله، سنة 1961، قام الملك الحسن الثاني بتعيين السيد بن سودة عاملا على إقليم الرباط، وبعد ذلك مديرا للإذاعة الوطنية، ثم انتخب عضوا بمجلس النواب كمستقل، إلى أن تم تعيينه سفيرا للمغرب بلبنان في شتنبر 1959. وهنا افتح قوسا لأشير إلى أن مقامه في بيروت جعله يربط علاقات وثيقة بقيادات حركة التحرير الوطني الفلسطيني، خاصة زعيمَها الشهيدَ أبا عمار الذي كان يصف صديقه بن سودة برجل فلسطين في المغرب، والسيد عبد الإله بنكيران شهد على ذلك في أحد حواراته الصحفية. وبعد ذلك، عينه الملك الحسن الثاني مديرا للديوان الملكي لأول مرة، فمستشارا للملك ومديرا لديوانه في نفس الآن.
ولما استرجعنا صحراءنا، عينه الملك عاملا على أقاليمنا الصحراوية في شهر فبراير 1976 بعدما كان له شرف إنزال العلم الإسباني ورفع علم المغرب عقب مغادرة آخر جندي إسباني لمدينة العيون..
وبعد ذلك، استمر مستشارا للملك الحسن الثاني ومديرا لديوانه إلى أن توفي الحسن الثاني رحمه الله. وبقي مستشارا رمزيا لجلالة الملك محمد السادس، إلى أن توفاه الله يوم 26 أبريل 2008.
هذه، إذن، نبذة موجزة عن المرحوم بإذن الله أحمد بن سودة. وقد سبق أن نشرتُ، في أكثر من جريدة وطنية، مقالات طالبتُ فيها بإلغاء التحزب “المعشش” في عقول البعض، وإنصاف كل الذين ناضلوا من أجل وطنهم دون استثناء.
وأرددها مرة أخرى: لماذا لا تسمُّون شوارعنا بأسماء الوطنيين الذين ناضلوا بدورهم من أجل تحرير بلدنا وعزته، مثل محمد حسن الوزاني ونائبه عبد القادر بن جلون وأحمد معنينو وأحمد بن سودة (موضوع حديثنا) ومحمد الشرقاوي (الذي توفي رحمه الله السنة الفارطة) وغيرهم، وسميتموها فقط بأسماء زعماء حزب واحد أو اثنين (رحمهم الله وغفر لنا ولهم جميعا).
والآن، أكرر كلامي وأطلب أن يتم إنصاف هذا الرجل الذي لا بواكي له ولا شوارع تسمى باسمه، وأعني هنا بشكل خاص مدينتَه فاس التي ولد وترعرع فيها ودرس بها وجاهد فيها، والعيون للسبب الذي ذكرت، فضلا عن عاصمتنا الرباط طبعا، ثم الدار البيضاء التي ناضل فيها ومارس بها مهنة التدريس واشتغل بها، علاوة على أنها المدينة التي تزوج فيها ومنها، حيث إنه تصاهر مع عائلة ابن امسيك ذائعة الصيت، مما زاد من ارتباطه بهذه المدينة وأسس بها أسرته التي كانت سندا له في نضاله ومقاومته.

*قيادي شوري سابق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.