زيارة وزير داخلية إسبانيا والحاجة إلى دفتر للتحملات!
بقلم: أحمد نور الدين
يجب أن نسطر أولا أن زيارة وزير الداخلية الاسباني، فرناندو غراندي مارلاسكا إلى الرباط، يوم الجمعة 19 يناير 2024، لم تكن زيارة استثنائية أو موسمية، بل زيارة دورية وقارة ومبرمجة في أجندة وزارتي داخلية البلدين، تتم على الأقل مرتين في السنة، بالتناوب بين الرباط ومدريد. وهذا مؤشر ضمن مؤشرات كثيرة على عمق هذه العلاقات وطبيعتها الإستراتيجية، وفقا لما حدده جلالة الملك وبيدرو ساتشيز في خارطة الطريق المعلنة في الرباط بوم 7 أبريل 2022، والتي جاءت لتطوي ازمة الثقة التي فجرتها قضية “ابن بطوش” سيء الذكر، وجاءت أيضا لترسم لهذه العلاقات التاريخية آفاقا أرحب “غير مسبوقة” كما وصفها العاهل المغربي محمد السادس، و”تليق بالقرن الواحد والعشرين”، حسب تعبير الملك الاسباني فليبي السادس.
نتحدث هنا عن علاقات متشعبة لم تعد محصورة في ملف أو ملفين كلاسيكيين متعلقين بالهجرة والإرهاب، بل توسعت إلى ملفات كثيرة منها على سبيل المثال التنسيق في عملية العبور السنوية لثلاثة ملايين مغربي مقيم بأوروبا، وهي عملية غير مسبوقة على المستوى العالمي وتتكرر كل صيف، بالإضافة إلى ملف جديد ومهم جدا وهو التنسيق الأمني من أجل إنجاح مونديال 2030، وما يتطلبه من لجان مشتركة وتنسيق بين عدة أجهزة في البلدين، على المستوى القانوني والعملياتي، بل وحتى على مستوى تكنولوجيا الاتصالات الحديثة والرصد وتبادل المعطيات آنيا وفي الزمن الحقيقي، وربما قد يفضي التعاون في هذا الملف إلى وثيقة مشتركة لتسهيل التنقل بين الضفتين لحاملي تذاكر المونديال، لم لا. ولا ننسى كذلك ملفات التنسيق والتعاون في مجال الوقاية ألمدنية ومواجهة الكوارث الطبيعية، وقد شاهدنا ذلك في زلزال الحوز، وأيضا بمناسبة الحرائق في جنوب إسبانيا التي تتدخل طائرات كانادير المغربية لإخمادها بشكل شبه دوري كل سنة.
وعلى مستوى الأمن والهجرة وصل التعاون إلى مستوى عال من الفعالية والنجاعة، كما أكد ذلك وزيرا داخلية البلدين في تصريحهما يوم الجمعة. وقد عبرت إسبانيا في مناسبات عدة عن ارتياحها لما وصل اليه التنسيق في هذا الإطار.
ومن أبرز المؤشرات على المجهود الجبار الذي يقوم به المغرب على وجه التحديد، يمكن التذكير بأن البحرية الملكية المغربية أعلنت أنه خلال سنة 2023، تم إحباط أزيد من 60 الف محاولة هجرة غير نظامية أو غير شرعية في اتجاه إسبانيا. وهذا رقم ضخم جدا، بحيث اذا قسمناه على عدد أيام السنة سيعطينا رقما شبه خيالي يقارب 160 عملية يومية على طول سواحل المملكة.
هذا التعاون بالإضافة إلى صبغته الثنائية يندرج ايضا في إطار دولي متعدد الاطراف من خلال مسار الرباط الاورو-إفريقي حول الهجرة، ومن خلال ميثاق مراكش العالمي للهجرة. وهو ما يعطي لهذا للتعاون بعدا دوليا واقليميا. وفي نفس الوقت يعطي للمقاربة الشمولية الدامجة والمندمجة كل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية والثقافية في التعاطي مع ظاهرة الهجرة التي تشير كل الدراسات إلى انها ستتفاقم في النصف الأول من هذا القرن، بسبب دخول عوامل جديدة إلى المعادلة وعلى رأسها تزايد الاختلالات المناخية وما ينجر عنها من ندرة الماء ومن آثار كارثية على نمط عيش ملايين المزارعين ورعاة الماشية في دول افريقية جنوب الصحراء، مما سيضطر جزءا كبيرا منهم إلى الهجرة داخل حدود بلدانهم وخارجها.
وللحد من هذه الآثار، لا مناص من الزيادة في الاستثمارات الخارجية المباشرة لدول الشمال، اوربا تحديدا، في هذه الدول الافريقية المصدرة للهجرة او التي تعبرها من أجل خلق أنشطة مدرة للدخل، ومن أجل خلق فرص جديدة للشغل لفائدة ملايين الشباب الافريقي المهدد في مصدر رزقه بسبب الانحباس الحراري الذي تتحمل فيه دول الشمال القسط الاعظم من المسؤولية التاريخية والاخلاقية.
وبعد أن تحول المغرب الى بلد استقبال ايضا وليس عبور فقط للهجرة، يتعين على الاتحاد الاوربي، ومدريد في الواجهة منه، المساهمة المالية في جهود المغرب لإدماج المهاجرين غير النظاميين في سوق الشغل الوطنية، وتوفير الرعاية الصحية لهم، ومقاعد الدراسة لأطفالهم حتى لا يتحولوا إلى قنبلة موقوتة مستقبلا، وتوفير التكوين المهني للبالغين منهم، وغيرها من البرامج الاجتماعية والثقافية التي ترهق ميزانية الدولة المغربية لحل مشكل لا يهمها وحدها.
وفي نفس السياق دائما، على الدول الأوربية ومنها إسبانيا أن تساهم في دعم وتمويل المشاريع الكبرى المهيكلة مثل أنبوب الغاز نجيريا-المغرب او بالأحرى الأنبوب الاورو-إفريقي، وكذلك مبادرة المغرب الاخيرة مع دول الساحل الافريقي الأربعة غير المنفتحة على البحر للنفاذ إلى البنيات اللوجستية والموانئ الاطلسية في المغرب، لأنها من المشاريع التي تدعم الاندماج الاقتصادي للدول الافريقية، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى تقليص عوامل الهجرة من خلال تحسين الظروف السوسيو-اقتصادية لدول المنطقة والزيادة في ناتجها الداخلي الخام، وزيادة عائدها على الأمن والاستقرار.
أما على مستوى محاربة الإرهاب، فقد أفضى التنسيق بين الرباط ومدريد إلى تفكيك 14 خلية إرهابية خلال سنة 2023 لوحدها. وإذا كان المغرب، حسب تصريحات متعددة لمسؤولين في الحكومة الإسبانية، يساهم بشكل فعال في محاربة الإرهاب وضمان الأمن داخل حدود الجارة الشمالية، فإن من حق المغرب أن يطالب إسبانيا، في إطار المعاملة بالمثل وفي إطار معادلة رابح-رابح، بمنع كل التحركات والأنشطة المعادية التي تهدد امنه القومي وسلامة اراضيه فوق التراب الإسباني، وخاصة تلك المرتبطة بأجندة جبهة “البوليساريو” الانفصالية والجمعيات التي تتلقى الدعم المباشر وغير المباشر من النظام العسكري الجزائري للإساءة للمغرب ووحدة أراضيه. ولعل رفض السلطات الإسبانية تجديد إقامة الانفصالية المدعوة “أمينتو حيدر”، المغربية اصلا وفصلا والمنتمية لعائلة مخزنية والموظفة سابقا في الإدارة المغربية والمستفيدة من شيك دسم من هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية، يمكن اعتباره خطوة اسبانية محتشمة في الاتجاه الصحيح يجب أن تتلوها إجراءات إسبانية أخرى ملموسة وأكثر صرامة.
فالحفاظ على الأمن والاستقرار كل لا يتجزأ، ولا يمكن بحال أن يكون في اتجاه واحد إذا كنا فعلا نريد أن نؤسس لمرحلة جديدة من التعاون متجهة نحو المستقبل ومبنية على الثقة واحترام الالتزامات، وتتطلع لحفظ الأمن والاستقرار في منطقة غرب المتوسط ومنطقة الساحل والصحراء.