العربي بن مبارك.. حكاية جوهرة مغربية أمتعت بفرنسا وإسبانيا
بمرور السادس عشر من شتنبر، يكون قد مر على رحيل العربي بن امبارك 17 سنة بالتمام والكمال، ورغم هذا الفاصل الزمني، فإن التاريخ سيظل شاهدا على عبقرية نجم مغربي حمل لقب “الجوهرة السوداء” وأدهش الجماهير المغربية والفرنسية والإسبانية، قبل أن يذيع صيته في أرجاء العالم.
لقد كان لاعب الإيديال العربي بن امبارك يوم 11 أبريل من سنة 1937 النجم الأول لمباراة المغرب وفرنسا التي انتهت بفوز المغاربة بأربعة أهداف لاثنين، إذ أبلى العربي البلاء الحسن على نحو جعل شهرته تتعدى حدود البحر الذي يفصل القارة الإفريقية عن نظيرتها الأوربية، فبعد ذلك بسنة، كان الصحافي جاك اسكينازي بجريدة “فرانس سوار” وراء التحاقه بفرنسا، حيث وقع لأولمبيك مارسيليا بدعم من المدرب ماريو زاتيلي. ولم ينتظر العربي طويلا ليسقط جمهور مارسيليا في غرامه، فموسما واحدا كان كافيا ليخطف خلاله الأضواء ويطير بعقل الناخب الفرنسي الذي استدعاه خمس مرات في سنة واحدة، محققا رفقة منتخب الزرق أربعة انتصارات أمام بولونيا (4-0) وبلجيكا (3-1) واسكتلندا (3-1) وبلاد الغال (3-1)، مقابل هزيمة واحدة أمام إيطاليا (0-1).
وللقب “الجوهرة السوداء” حكاية، فقد طلبت إحدى الجرائد الفرنسية من قرائها اختيار لقب للعربي بن امبارك، فتناسلت الألقاب من قبيل “القايد” و”المذنب السريع”… لكن لقب “الجوهرة السوداء” كان هو الفائز، وهو بحق لقب يستحقه العربي بجدارة، خاصة أن النجم بيلي رفض حمل هذا اللقب وبن امبارك على قيد الحياة…وليس في ذلك غرابة، لأن التواضع كان دائما سمة العظماء.
ولم يكن هناك ما يوقف العربي عن المجد الكروي بأوربا سوى الحرب العالمية الثانية، إذ عاد إلى الدارالبيضاء التي حمل بها قميص اليسام مجددا إلى غاية سنة 1945. وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى عاوده الحنين للاحتراف بإلحاح من هيلينيو هيريرا المدرب المشهور ذو الأصول المغربية وغابرييل هانوت مدرب المنتخب الفرنسي. وكانت المحطة هذه المرة بسطاد الفرنسي الذي جاوره إلى غاية 1948، ذاقت خلالها جماهير النادي حلاوة الانتصارات، إذ يكفي أن العربي ساهم في صعود الفريق إلى القسم الأول واحتلال الصف الرابع في السنة الموالية.
سنة 1947، حقق سطاد الفرنسي المفاجأة بإحدى الدوريات بالسويد وهو يفوز بجميع المباريات. واختير العربي 16 مرة في ثلاث سنوات للعب رفقة المنتخب الفرنسي، ما كان وراء ارتفاع أسهمه في أسواق كرة القدم وهو الذي اختير سنة 1948 أفضل لاعب كرة في العالم. وفي السنة الموالية، تكرست قوة سطاد الفرنسي بعد سحقه لأتلتيكو مدريد بميدانه، إذ ترك العربي أفواه الإسبان مشدوهة أمام تحركاته السريعة، فلم يكن أمام الأتلتيك إلا انتزاع صفقة شراء بن امبارك التي بلغت 17 مليون فرنك فرنسي، ومقابل الفرحة التي عمت بلاد “الكوريدا”، فإن مسحة حزن عارمة عمت باريس، إلى درجة أن الجمهور طالب ببيع قوس النصر أو حتى برج إيفل مقابل الاحتفاظ بمعبود الجماهير.
باسبانيا، كانت لغة بن امبارك هي الإمتاع رفقة لويس هون وكارلسوم والحارس مارسيل دومنيكو، إضافة إلى المدرب هيلينو هيريرا الذي التحق بالأتلتيكو بتوصية من بن امبارك. وفي ظرف خمس سنوات، حقق الأتلتيك بطولتين وخمسة كؤوس إلى غاية 1954 التي شهدت مغادرة العربي لاسبانيا وسط دموع الجمهور المدريدي. والوجهة لم تكن سوى فرنسا بقميص فريق أولمبيك مارسيليا الذي لعب له لموسمين (55-54 و56-55)، إذ ساهم في إرجاع هيبة الفريق الذي كان يحتل الصف ما قبل الأخير، ليصبح تاسعا في الترتيب، كما لعب نهاية كأس فرنسا أمام نيس وخسرها بهدفين لواحد.
ومكنته مؤهلاته البدنية العالية من حمل قميص المنتخب الفرنسي في سن الأربعين سنة 1954 خلال مواجهة ألمانيا بهانوفر، علما أن مشاركته السابقة تعود إلى سنة 1948، لكن ذلك لم يمنع بن امبارك من تسجيل هدف رائع في مرمى الحارس الألماني رايموند كوبا في مباراة شهدت فوز الفرنسيين بخمسة أهداف لواحد وتأهل منتخبهم إلى كأس العالم بسويسرا، لكن مع تسجيل غياب العربي الذي أصيب في الكتف.
لقد ظل بنمبارك شاغلا الناس والعباد خلال ممارسته ضمن أندية فرنسية واسبانية، ورغم اعتزاله، لم تنسه الذاكرة الأوربية، فخلال تقديمه من طرف الصحافي الفرنسي ميشيل دريكير في برنامجه الشهير “شانزيليزيه” سنة 1986 باعتباره مفاجأة الحلقة، نهض عميد المنتخب الفرنسي ميشيل بلاتيني غير مصدق أنه أمام واحد من عمالقة الكرة في القرن الماضي، بل إن ملامح الدهشة ظلت مرسومة على محياه وهو يتابع بحرص كلمات بنمبارك، وحينها كان الفرنسيون يتابعون البرنامج ذاته بما أنه خصص لاستضافة المنتخب الفرنسي المؤهل إلى كأس العالم 1986 بالمكسيك. وباسبانيا، وقف جمهور أتلتيكو مدريد طويلا ترحما عليه، مستحضرا الهيستيريا التي كان يبعث حممها في بلاد الكوريدا.
يشار إلى أن الصحافي الفرنسي جاك شوفيني كان أول من أرخ لتاريخ بن امبارك في كتابه “أسطورة الجوهرة السوداء”، قبل أن يعيد الحسين الحياني الاعتبار للكتاب المغاربة عندما ألف كتابه “العربي بن امبارك”.
عندما تمت الاستجابة لمطلب تكريم بنمبارك بعد وفاته لاستدراك ما يمكن استدراكه، كان التفكير في تحويل ملعب فيليب إلى ملعب كبير يحمل اسمه، لكن هذه المبادرة تحولت إلى كابوس مزعج لساكنة الدارالبيضاء بعد علمها أن 14 مليارا من السنتيمات ضخت في ملعب لن يحتضن مباريات كرة القدم بسبب زاوية الانحدار الخطيرة للمدرجات، ما حوله إلى مسكن لمختلف أنواع الطيور، في حين تبادلت كل الأطراف المسؤولية بدون أن ترسو على أحد منها.
التحق العربي بنمبارك بالرفيق الأعلى بتاريخ 16 شتنبر 1992 عن سن يناهز 78 سنة، بعدما ظل قابعا ببيته وحيدا يجتر مرارة ذكريات المعجبين الذين طوقوه من كل جانب ذات يوم من أحد الشهور في إحدى السنوات. ولم يكتشف أمر وفاته إلا بعد أن انبعثت رائحة تعفن جسده التي كانت آخر رسالة يبعث بها العربي إلى عالم الأحياء، مفضلا الامتثال للمثل القائل “الاحترام الذي نكنه للأبطال يتزايد شريطة ابتعادهم عنا”.
- (م.ش.. أكتوبر 2009)